الحضارة
سبق وريادة وتجديد
اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمي يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة.
ملخص المقال
اقتضت سنة الله في الأمم والحضارات أن تقوم ثم تسقط، ومن سنن الله أنَّ هناك قوانين اجتماعية وإنسانية تتصل بضبط الأمم والشعوب، فإذا ما التزمت الأمم
منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا، بل حتى قيام الساعة، اقتضت سنة الله في الأمم والحضارات بصفة عامة أن تقوم ثم تسقط وتزدهر ثم تندثر، فمن سنن الله أن كانت هناك قوانين اجتماعية وإنسانية عامة تتصل مباشرة بضبط مسيرة الحياة الإنسانية ومسيرة الأمم والشعوب، فإذا ما التزمت الأمم والحضارات بهذه القواعد دامت وكانت في خير وسعادة، وإذا حادت عنها لقيت من السقوط والاندثار ما هي أهل له؛ قال تعالى:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
وليست الأمة الإسلامية بمنأى عن هذه السنن الكونية، فمنذ نزول الرسالة على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدولة الإسلامية تأخذ بأسباب القيام فتقوم، ثم تحيد عنها فيحدث الضعف ثم السقوط، وأسباب قيام الدولة الإسلامية كثيرة من أهمها:
أولًا: الإيمان بالله سبحانه وتعالى والاعتقاد الجازم بنصرته وقدرته.
ثانيًا: الأخوة، والوحدة، والتجمع، ونبذ الفرقة.
ثالثًا: العدل بين الحاكم والمحكوم.
رابعًا: العلم، ونشر الدين بين الشعوب.
خامسًا: إعداد العدة، والأخذ بالأسباب: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].
فإذا أخذ المسلمون بهذه الأسباب فإنهم سرعان ما يقومون، وغالب الأمر يكون القيام بطيئًا ومتدرجًا، وفيه كثير من الصبر والتضحية والثبات، ثم بعد ذلك يكون القيام باهرًا، ثم يحدث انتشار للدولة الإسلامية بصورة ملموسة، حتى تفتح الدنيا على المسلمين، وهنا يصبر القليل على الدنيا وزينتها ويقع الكثيرون في الفتنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ»[1].
ومن جديد يحدث الضعف فالسقوط، وعلى قدر الفتنة بالمادة والمدنية يكون الارتفاع والانحدار، والسقوط والانهيار، وأمر الفتنة هذه هو الذي فقهه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سنة 17هـ=735م حينما أمر بوقف الفتوحات في بلاد فارس، وذلك حين فتحت الدنيا على المسلمين وكثرت الغنائم في أيديهم، خاف عمر رضي الله عنه أن تتملك الدنيا من قلوب المسلمين، وخشي أن يُفتنوا بالدنيا ويخسروا الآخرة فيخسروا دولتهم، وكان همه أن يدخل شعبه الجنة، لا أن يدخله بلاد فارس، ولم يعد رضي الله عنه إلى مواصلة الفتوح إلا بعد أن هجم الفرس على المسلمين، وخاف على المسلمين الهزيمة والضياع.
والأمة الإسلامية تنفرد بأنها أمة لا تموت ودائما في قيام، فإذا سقطت أتبع السقوط قيام، أما ألا يتبع السقوط قيام فهذا ليس من سنن الله مع المسلمين، ولا يحدث إلا مع أمم الأرض الأخرى غير الإسلامية، تلك الأمم التي يغلب عليها سقوط واندثار لا يتبعه رجعة، حتى وإن طال أجل القيام والازدهار، ومن أصدق الأمثلة على ذلك حضارة الفراعنة، واليونان، وإمبراطوريتي فارس والروم، وإمبراطورية إنجلترا التي لا تغرب عنها الشمس.
وهذه السنة الكونية يمثلها قوله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]. وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
ومما يثبت سنة الله هذه في الدولة الإسلامية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»[2]، فمعنى هذا أنه سقوط، ومن بعد السقوط ارتفاع وعلو، وهذا الارتفاع سيكون على يد مجدد أو مجموعة مجددين، وهكذا إلى قيام الساعة.
والتاريخ الإسلامي مليء بمثل هذه الفترات، ففيه الكثير من أحداث الارتفاع والهبوط، ثم الارتفاع والهبوط، ولم يكن هذا ولم يكن هذا خاصًا بفترة معينة، بل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة شاهد الصحابة ذلك بأعينهم، حيث حدث سقوط ذريع وانهيار مروع، وردَّة في كل أطراف جزيرة العرب، التي لم يبق منها على الإسلام سوى مكة والمدينة وقرية صغيرة تسمى هجر (هي الآن في البحرين).
وبعد هذا السقوط يحدث قيام عظيم وفتوحات وانتصارات، كان قد جدد أمرها وغرس بذرتها أبو بكر رضي الله عنه بعد أن أجهز على الردة، ثم فتحت الدنيا على المسلمين في عهد سيدنا عثمان رضي الله عنه، فحدثت الفتنة والانكسارات في الأمة الإسلامية؛ مما أدى إلى مقتله رضي الله عنه وهو الخليفة الراشد وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظلت هكذا طيلة خلافة سيدنا علي رضي الله عنه.
ومن جديد يستتب الأمر، وتقوم الدولة الأموية وتستكمل الفتوح فترة من الزمان ثم يحدث سقوط آخر حين يفسد أمر بني أمية، وعلى أثره يقوم بنو العباس فيعيدون من جديد المجد والعز للإسلام، وكالعادة يحدث الضعف ثم السقوط، وعلى هذا الأمر كانت كل الدول الإسلامية الأخرى التي جاءت من بعدها، مرورا بالدولة الأيوبية وانتهاء بالدولة العثمانية التي فتحت كل شرق أوربا، وكانت أكبر قوة في زمنها.
فهي إذًا سنة من سنن الله تعالى، ولا يجب أن تفت في عضد المسلمين، ولا بد للمسلمين من قيام بعد سقوط، كما كان لهم سقوط بعد قيام، فإنه ليس بين الله سبحانه وتعالى وبين أحد من البشر نسب.
«يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا»[3].
فإن ضل المسلمون الطريق، وخالفوا نهج نبيهم؛ فستكون الهزيمة لا محالة، وسيكون الانهيار المروع الذي شاهدناه في كل عهود المسلمين[4].
[1] الترمذي: كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2336) وقال: هذا حديث صحيح غريب، وأحمد (17506)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح وهذا إسناد قوي، وابن حبان (3223)، والحاكم (7896)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وقال الذهبي في التلخيص: صحيح، وصححه الألباني: انظر: السلسلة الصحيحة (592).
[2] أبو داود: كتاب الملاحم، (4291)، وقال: رواه عبد الرحمن بن شريح الإسكندراني لم يجز به شراحيل، والحاكم (8592)، وصححه الألباني: صحيح، انظر: السلسلة الصحيحة (599).
[3] البخاري: كتاب الوصايا، باب هل يدخل النساء والولد في الأقارب (2602)، ومسلم: كتاب الأيمان، باب في قوله تعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} (204).
[4] راغب السرجاني: قصة الأندلس من الفتح إلى السقوط، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الأولى، 1432هـ= 2011م، 2/ 716- 720. https://www.islamstory.com/ar/artical/27888
التعليقات
إرسال تعليقك